ظلام الليل في ليبيا

This article is part of the series Night

في أحد شوارع طرابلس يحلّ ظلام الليل ليخفّف من وطأة ازدحامه المعتاد، فلا ترى سوى وميض المصابيح الأماميّة للسيّارات المارّة فيه. ترى المحلات التجاريّة إمّا مغلقة أو تشغّلها مولّدات الكهرباء أو ينيرها وهج الشموع. ويعتمد بعض المارّة على ضوء هواتفهم أو يحملون الشموع للتنقّل بين الشوارع والأزقّة المجاورة، بينما يفضّل البعض الآخر تجنّب الإنارة والتسلّل في الظلام.

© Naziha Arebi

ترى الشبّان متجمّعين على أطراف الشوارع. بعضهم يشربون القهوة على وقع طنين المولّدات والرشقات الناريّة البعيدة، الأمر الذي بات معتادًا في ليبيا اليوم، والبعض الآخر يحومون حول طاولة “بيبي فوت” ليتابعوا المباراة التي ينيرها ما يشبه ضوء لوحة إلكترونية أو هاتف كبير الحجم… ويضحكون. فانقطاع التيّار الكهربائي لا يشكّل أمرًا جديدًا بالنسبة إليهم، لقد أصبح ذلك جزءًا من الحياة الطبيعيّة في ليبيا منذ اندلاع الثورة على الرغم من ازدياد الإشتباكات بشكل ملحوظ خلال الأشهر الستّ الماضية. ينقطع التيّار بشكل شبه يوميّ في أوقات عشوائيّة ولفترات مختلفة في عزّ الشتاء أو حرّ الصيف وخاصّة عند اشتداد المعارك. يقول سكّان طرابلس أنّه قبل الثورة وعلى الرغم من اختلاف فترات التغذية في مناطق مختلفة في ليبيا، لم يكن التيّار الكهربائيّ ينقطع بهذه الوتيرة في عهد النظام السابق. فعلى سبيل المثال، عندما كان القذافي يقيم الحفلات كانت تتمّ تقوية التيّار الكهربائي لتغذية المولّدات وأضواء الزينة في طرابلس على حساب المناطق الأخرى، لتغرق الأخيرة في الظلام والبرد بينما تستمرّ الإحتفالات في طرابلس. مع ذلك، فقد دخل انقطاع التيّار الكهربائي المتكرّر في نسيج الحياة الإجتماعيّة اليوميّة في العاصمة الليبيّة خلال السنوات الأربعة الماضية.

على إثر ذلك، يفضّل البعض النزول إلى الشارع وملاقاة الأصدقاء على البقاء في المنزل عند انقطاع الكهرباء مع حلول الظلام. غير أنّ الكثيرون اكتشفوا معنىً آخر للتواصل بفضل العتمة ؛ فبعضهم بات يقبع متأمّلًا سماع صافرة المكيّف في أيّ لحظة لكي يتمكّن من استخدام جميع الأدوات الكهربائيّة والإلكترونيّة – الأضواء والتلفاز والإنترنت والفيسبوك ! ففي عصر الصور الذاتيّة (الـ”سلفي”) والـ”هاشتاغ” والتحديثات شبه المتواصلة على مواقع التواصل الإجتماعي، يُعيد تأثير انقطاع الكهرباء إلى الذاكرة إعلان مبتذل لهاتف محمول مفاده أنّه ” ينبغي في بعض الأحيان على بعض الأشياء أن تَنطفِئ لكي تدور العقول”.

© Naziha Arebi

يقول هشام تاكيته العامل في منظمّة غير حكوميّة في طرابلس وهو جالس في القهوة في وسط المدينة : ” كان الأمر في بادئ الأمر أشبه بكابوس – فمن دون ضوء أو كهرباء، لم نتمكّن من القيام بأي من أعمالنا اليوميّة. بالنسبة إلينا، كأنّ العالم قد توقّف عن الدوران. أمّا عندما تعود الكهرباء كان يغمرنا الحماس. لكنّ الأمر لم يَعُد مسلّيًا بعدما تعوّدنا على ذلك وبدأنا جميعًا نَعي كم أصبحنا سطحيّين بإعتمادنا على التكنولوجيا لتملأ حياتنا”. ثمّ يتابع شارحًا كيف أنّ انقطاع التيّار بشكلٍ متكرّر جرّ معه وعيًا جماعيًّا دفع بالجميع إلى اكتشاف طبيعة الحياة من دون حواجز التكنولوجيا ومواقع التواصل الإجتماعي. ويضيف هشام:

“لقد بدأنا بممارسة هوايات جديدة وقمنا بإعادة إحياء هوايات قديمة كالموسيقى والكتابة وقراءة القصص. لقد اكتشفنا أنفسنا وبعضنا البعض، وأصبحنا ننتظر انقطاع الكهرباء كي نخرج ونتمتّع بوقنا معًا. وهذا أمرٌ لم نكن نفعله من قبل”.

إلاّ أن انقطاع الكهرباء لا يلقى ترحيبًا حارًّا من الجميع كالذي يلقاه من هشام. فبينما تغرق المنازل والمباني السكنيّة على الجانب الأوّل من الشارع في الظلام، يعبّر كثيرون على الجانب الآخر خفية عن سرورهم لعودة التيّار عندهم. ويُمكن سماع التهاليل والإحتفالات في جانب من الشارع، بينما يقوم الناس على الجانب الآخر بإضاءة الشموع وتعبئة المولّدات استعدادًا لتمضية بين 4 و16 ساعة دون كهرباء.

© Naziha Arebi

تقول لُبنى علي وهي طالبة في طرابلس تتابع دراستها عن بُعد في الجامعة المفتوحة أنّه “في اللحظة التي ينقطع فيها التيّار يحدث أمران في الوقت نفسه : يلعلع المنزل بأكمله خيبة ويرجو إخوتي بشدّة أن أكون قد شحنت المودم المتنقّل”. تهزّ لُبنى برأسها وهي تشرح كم أصبح جهاز الـ”واي-فاي” المتنقّل الذي يلتقط الإنترنت دون الحاجة إلى الكهرباء ثمينًا بالنسبة إليهم. تصوّر لُبنى الإحباط اليوميّ الذي يواجهه الطلّاب وكلّ من يعتمد على جهاز الكمبيوتر للعمل قائلة : “أقوم فورًا بتفقّد هاتفي المحمول والكمبيوتر وأصلّي أن يكونا مشحونان ما فيه الكفاية لأتمكّن من العمل لفترة تدوم بين الأربع والتسع ساعات”. ثمّ تضيف أنّه “في حال لم تكن الأجهزة مشحونة، أدفن رأسي في الوسادة ثمّ أحاول أن أُكمل درسي على ضوء الشمعة الخافت، مع أنّ ذلك يزيدني قناعة أنني لن أتمكّن بأي شكلٍ من الأشكال من النجاح في الإمتحانات هذه السنة إذا استمرّ الوضع كذلك”

عندما تنطفئ جميع أجهزتها، إمّا تقوم لُبنى بالإستلقاء والتحديق في العدم المظلم أو تجلس مع عائلتها وتستمع إلى حديثهم. وتقول أنّ “هناك شيئًا في الظلام يجعل أبي يستذكر الأيام التي لم يعرف الناس فيها الكهرباء، حينما كانت بضعة شموع جلّ ما يستخدمون. عندها فقط تُتاح لنا الفرصة لمعرفة المزيد عن ماضيه وعن أصول عائلتنا”.

وبينما تحوم العائلات في طرابلس وبنغازي وسبها وغيرها من المدن حول أضواءٍ خافتة متفرّقة ككواكب تدور حول نفسها وحول الشمس، تجد معلّمة المدرسة الإبتدائيّة ندى ساسي في القراءة والطبخ والتأمّل والتصوير (إن كانت كاميرتها مشحونة) وسيلة لتمضية الوقت عند انقطاع الكهرباء. وتعلّق ندى قائلةً أنّ “الوضع يصبح صعبًا ومحبطًا عند انقطاع الكهرباء، لكنني أبذل قصارى جهدي لرؤية الجانب الإيجابي والتركيز على شيء معيّن. فعلى سبيل المثال، أطالع أكثر. لكنني لا أتحمّل الأمر عندما يقوم الناس بالتلاعب بالكهرباء وتخريب كابلات التغذية. فأنا أكره ذلك. عندما أحتاج إلى الإنترنت أو أي جهاز كهربائي آخر للعمل، أشعر حقًّا برغبة في مراوحة المنزل وعدم القيام بأي شيء”.

© Naziha Arebi

يشارك الكثيرون مشاعر ندى، على وجه الخصوص الناس في المستشفيات والمدارس والمخيّمات أو الذين يتوجّب عليهم العناية بالأطفال أو العجزة. تقول ندى أنّها “تأسف جدًّا للأطفال” وأنّ ذلك “يؤثّر على البعض منهم بشكلٍ كبير. فالتلاميذ لا يمكنهم التركيز في صفّ معتم، وأصبحنا نعطيهم فروضًا أقلّ نظرًا لاشتكاء الأهالي من صعوبة تدريس أولادهم عند انقطاع التيّار الكهربائيّ”.

يقول طه شكشكي رئيس لجنة أزمة الطاقة في مجلس طرابلس المحليّ التي تعمل بالتعاون مع الشركة العامة للكهرباء GECOL ووزارة الكهرباء في حكومة فجر ليبيا، أنّ انقطاع الكهرباء يأتي نتيجة قضايا متعدّدة منها ارتفاع معدّلات الاستهلاك في الشتاء والقتال المستمرّ الذي ألحق الضرر بمحطّات التوليد وعواميد الكهرباء بالإضافة إلى عدم توفّر الأموال الكافية.

يضيف طه أنّه “إن تُركنا وشأننا نستطيع أن نقوم بعملنا على أكمل وجه. فالعمّال جميعهم يحبّون وطنهم ويخرجون لتصليح الإمدادات في جميع الظروف. لكنّهم لا يستطيعون العمل تحت طلقات الأعيرة الناريّة”، في إشارة منه إلى وضع محطّات الطاقة في بنغازي التي تضرّرت بشكل كبير بسبب القتال العنيف الذي استمرّ لعام كامل. لكنّه يرى أيضًا أنّه توجد عوامل أخرى من شأنها تخليف ضررٍ أكبر. يقول أنّ ” الشركة تعاني حتمًا من نقص في الأموال وانعدام الأمن والسرقة، لكنها تعاني أيضًا من أعمال التخريب. فالبعض يقوم بقطع كابلات الإمدادات الى المستشفيات والمدارس والمنازل وتدمير مراكز التوزيع عمدًا. في الآونة الأخيرة تمّ الإعتداء على خطّ عواميد كهرباء يمتدّ على طول 12 كيلومترًا. تقوم مجموعات عديدة بمثل هذه الهجمات لدوافع  مختلفة، لكنّ الهدف الرئيسي من ذلك هو تقويض الثورة”

© Naziha Arebi

.ويضيف طه أنّ “المواطنين هم الذين يتحمّلون تبعات الإقتتال. فالجميع يخرج خاسرًا بعد كلّ معركة بين الطرفين. ما نحتاج إليه الآن هو الأمن والمصالحة.”

ذلك لأنّ المعارك المستمرّة بين الحكومتين المتنازعتين في شرق وغرب البلاد بالإضافة إلى ازدياد حدّة الإنقسامات في الجنوب  تؤدّي جميعها إلى تمزيق البلاد إربًا وتلقي بعبء البنى التحتيّة المتصدّعة وانقطاع الخدمات الحيويّة على صدور الناس وتزيد من معاناتهم. يشرح طه أنّ لجنة الأزمة المولجة تولّي مشكلة التغذية الكهربائيّة تقوم بإدارة مواردها المحدودة وتوظيفها قدر الإمكان من خلال التقنين الكهربائيّ. ذلك يعني انّه يتمّ قطع التيّار الكهربائيّ في جميع المناطق أو في جزء من منطقة معيّنة في أوقات مختلفة وبشكلٍ عشوائي وذلك من أجل توزيع الطاقة على جميع المناطق ولتبريد الشبكة. فمع كلّ الضرر الذي أُلحق بها، لا يمكن لهذه الأخيرة تتحمّل معدّل الاستهلاك المرتفع لمدينة طرابلس.

غير أنّ بعض الأماكن تبقى مضاءة ومنهم ساحة الشهداء في وسط المدينة. فالساحة تقع في منطقة تجاريّة تطلّ عليها القلعة الحمراء المبنيّة على أنقاض آثار رومانيّة خلال الفتوحات العربيّة. احتلّها العرب والإسبان والمالطيّين والعثمانيّين والإيطاليين والإنكليز وأخيرًا عائلة القذّافي. أمّا الآن فتحوّلت إلى متحف طرابلس بإدارة مديريّة الآثار وتحوّلت الساحّة إلى ملتقى للشبّان الذين يأتون لاستعراض سيّاراتهم ودراجاتهم الناريّة.

© Naziha Arebi

في هذا الصدد يشرح رجل كبير في السنّ يحرص على إظهار طبيعة الشعب الليبي الطيّبة وعكس صورة عن البلاد مختلفة غير تلك المقترنة بالحرب الأهليّة قائلًا : “عندما ينقطع التيّار الكهربائيّ أجلب عائلتي إلى مدينة الملاهي أو إلى ساحة الشهداء لمشاهدة الدراجات الناريّة، الجميع يحبّ ذلك. فلا معارك ولا وجود لتنظيم “داعش” هنا. إننا ناسٌ طيّبون”

يقوم الشبّان بلباس الجينز والقبّعات بتقديم عروض للحشود بسيّاراتهم الرياضيّة ودرّاجاتهم الناريّة على وقع حفيف الإطارات وفرقعة الألعاب الناريّة. ويتوقّع البعض في الحشود أن تعود الكهرباء لمنازلهم بعد بضعة ساعات، بينما قد ينتظر البعض الآخر لوقت أطول بكثير.

بينما تقوم المعلّمة ندى بتحضير وجبة خفيفة لتمرير الوقت تقول أنّها تحمد الله على ما أنعم عليها من منزل وسقف يحميانها، خصوصًا عندما تفكّر بالذين يعانون أكثر منها بكثير كسكّان بلدة تاورغاء أو العائلات أخرى في مختلف أنحاء ليبيا. وتضيف : “فعلًا، عندما أفكّر بذلك أحمد لله على ما أملك وأتوقّف عن التأفّف”.

دُمّرت مدينة تاورغاء الليبيّة الساحليّة بالكامل وأُفرغت من سكّانها بعد النزاع في عام 2011،  وألحق انقطاع التيّار الكهربائي ضررًا كبيرًا بسكّانها الذين نزحوا للعيش في مخيّمات مؤقّتة في جميع أنحاء ليبيا. يعيش حاليًا حوالي 30,000 نازحًا من تاورغاء منذ أربع سنوات في خيمٍ بسيطة مصنوعة من معدن الصاج وهي غير معزولة بشكل جيّد. فعند انقطاع الكهرباء وتوقّف التدفئة الكهربائيّة، يضطرّون إلى إشعال النار في عجلات إطارات السيّارات المتروكة داخل مآويهم لتحضير الشاي وتدفئة أقدامهم. ومع ذلك، قد يُفاجؤ المرء بصمود هؤلاء الناس وبمعنويّاتهم القويّة.

© Naziha Arebi

ناما تلميذة تعيش في المخيّم مع إخوتها وأخواتها العشرة تضحك وهي ملفوفة ببطانيّة يوزّعها برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي وتجيب عند سؤالها عن كيفيّة الدرس في العتمة والبرد قائلة : “لقد مرّ علينا ما هو أسوأ من ذلك بكثير، بعونه تعالى سوف نكون على ما يُرام”. وتضيف أنها عند انقطاع الكهرباء تمضي وقتها في تحضير الطعام وترتيب المنزل والدراسة واللعب مع الأطفال الآخرين. في بعض الأحيان تشاهد العائلة على الهواتف المحمولة فيديوهات قديمة عن الصحراء والبحيرات وشجر النخيل في بلدتهم تاورغاء مصحوبة بأغاني فولكلوريّة من منطقتهم.

في ساعات الليل الأخيرة ومع اقتراب موعد عودة الكهرباء، تحاول الطالبة الجامعيّة لُبنى رؤية الأمور من منظور إيجابيّ وتقول والضحكة على وجهها : “ليس الأمر سيّئًا كما يبدو. في معظم الأوقات يعجّ الشارع ومحلّاته التجاريّة بالناس وتعمّ الضوضاء. يجلب انقطاع الكهرباء للمنطقة ما يلزمها من سلام وهدوء، ناهيك عن أنّ ذلك يُكسبنا متّسعًا من الوقت لنخبر بعضنا البعض  قصصًا محرجة عن العائلة لم نسمعها من قبل”.

ثمّ تضيف لُبنى مفسّرة أنّ “تعلُّق جيلِنا بالتكنولوجيا له أوجه سلبيّة. فلا يبدو أنّنا نفهم أنّ الحياة تشمل في الواقع أشياء أُخرى أيضًا. أمّي وأبي يبدوان وكأنّهما خرجا من كتاب التاريخ، فيقضيان ساعات وساعات يتحدّثان عن كيف كانت الحياة أبسط أيام زمان وكيف كان الناس أقلّ غضبًا وأكثر ودًّا. ليس هناك أدنى شكّ أنّه لدينا الكثير لنتعلّمه من تلك اللحظات”.

© Naziha Arebi

(Visited 920 times, 1 visits today)

Leave a Reply