سلطة، بلانكتون، و محطة وقود

 Gas station Mansourieh

الأحافير، الوقد، وفوكو وأنا في مغسل السيارات

إن السيد أنيس الحاج رجل في أواخر الأربعينات يملك محطة مع شقيقه زياد. يحظى السيد أنيس وشقيقه زياد باحترام أهل القرية، فعائلة الحاج عائلة معروفة ومرموقة في الضيعة. زوجته أولغا امرأة قوية تفرض نفسها وتعلب دوراً لا يستهان به في الحفاظ على عمل زوجها. يعمل لدى السيد الحاج أربعة أو خمسة رجال من الجنسية السريلانكية أو الهندية. وهم اللذين يقومون بالعمل الحقيقي. هم يغسلون السيارات، ويملؤون الخزانات بالوقود، ويلوثون أيديهم بكافة الأعمال الأخرى التي لا يقوم بها إلا هم.

أما أنا، فقد كنت أقود سيارة أمي في أرجاء بيروت طيلة النهار. ولاحظت أن السيارة متسخة. قررت أخذها إلى محطة البنزين الخاصة بنا (التي تحمل اسم عائلتنا) لغسلها، وذلك بمثابة مبادرة تقدير لوالدتي.

في الأيام العادية، لا يستغرق غسل السيارة الكثير من الوقت. ولكن، هذه المرة تحولت هذه المهمة البسيطة والسريعة إلى مساعٍ شاقة، إذ أن العامل الذي نقل سيارتي لغسلها أقفلها وقد نسي المفاتيح بداخلها. وفجأة وجدت نفسي أنظر إلى الحادثة بعيون فوكو الذي قال ”إن السلطة موجودة أينما كان، وليس لأنها تجمع كل شيء، بل لأنها تبع من كل شيء.“

إن محطة الحاج في المنصورية تشكل إحدى المواقع التي لا تحصى ولا تعد في بلدنا حيث تتبلور عملية السلطة وتظهر جليةً من خلال ”الأعمال الصغيرة أو الثانوية التافهة“ التي يقوم بها أفراد قد لا نلاحظهم أو قد يمرون مرور الكرام في حياتنا اليومية. ولكن تلك الأعمال الصغيرة أو الظواهر البسيطة هي التي تشكل أساس الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وتظهر السلطة جلية – إنما أيضاً تحت غطاء الظاهرة الطبيعية – في العلاقة بين العمال الأجانب مع مالك المحطة وزوجته. فعندما اكتشف أنيس أن الهندي (سندعوه الهندي 1) أقفل السيارة والمفاتيح داخلها، استشاط غضباً.

”كس أخت..! من هيدا الحيوان..؟! مين هيدا الحمار!!؟“ وهكذا دواليك. وبدأ بالحث عن الهندي 1 في المحطة. وعندما وجده صفعه على وجهه ونعته بكافة الصفات الحقيرة.

”كم مرة بدي أقول لك تشيل المفتاح من السيارة قبل أن تغسلها؟! كم مرة بدي أقول لك يا حيوان، يا حمار، يا كلب!!“

وعندما ما ابتعد عنه مر أنيس بعميلة من عميلات المحطة، أنيقة وشابة، كانت تنتظر أن يتم غسل سيارتها وقال لها: ”شو بتعملي؟؟ تقتلينهم؟ أنا عايش مع جحش أنا! عايش مع جحش!“

وبعدئذٍ، يستدير نحو الهندي 2 ويصيح بوجهه: ”النبي تبعكن كس اخت بأيري! كس إخت!!!“

من قال أنهم يؤمنون بالنبي، قلت لنفسي. ومن قال أن هؤلاء العمال الخمسة لديهم الإيمان نفسه؟ وبمجرد أنه أشار إليهم على أنهم مجموعة واحدة، واعتبر نفسه والزبونة مجموعة أو فئة مختلفة، شدد أنيس بكامل إرادته ولكن من دون إدراك على الانقسامات البنيوية والاجتماعية والاقتصادية بيننا ”نحن“ اللبنانيين و”هم“ العمال الأجانب.

في الواقع، إن لهذه الحادثة تداعيات على مختلف المستويات. فمن ناحية، تشكل هذه الحادثة إحدى نوبات الغضب الخاصة بأنيس. فالكل لم يعر الموضوع أهمية كبيرة باستثناء أنيس. وأعتقد أن أولغا والعمال الآخرين وحتى الزبونة لم يأخذوا الموضوع على محمل الجد. أعتقد أن نوع من روح النكتة أو التسلية طغى على الحادث.

ولكن من ناحية أخرى، لا يمكن اعتبار تلك ”الأفعال الصغيرة أو الثانوية“ على أنها – كما أشار فوكو –”مسائل شخصية، لا تدخل ضمن التاريخ والمجتمع. فمن خلال تلك الأعمال”التافهة“ بالذات التي نعتبرها عادية، تنشأ التقسيمات الهيكلية وعدم المساواة وتنمو وتستمر. فالأفعال ”العادية“ هي أساس التقسيم الهيكلي.

بعد الحادثة، استلمت أولغا زمام الأمور، وحرصت على التأكد من أن السيارات الأخرى يتم تنظيفها وغسلها وملئها بالوقود. وكان أنيس في هذه الأثناء يحاول فتح باب سيارتي مستخدماً علاقة ثياب معدنية قام بلويها. أما أولغا فقد سألتني إذا كان بالإمكان الحصول بطريقة ما على مفتاح إضافي للسيارة، بعد أن استعادت شيئاً من هدوئها والسيطرة على سير الأعمال. وكان من المثير للاهتمام ملاحظة تبدل مواقع السلطة بين الرجل والمرأة، ولو حتى لوقت قصير. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مالك محطة البنزين، بالإضافة إلى عدد من الرجال، يشيرون إلى السيارات على أنها نساء. فعندما كان مرة أنيس يتكلم إلى صديق مقرب، قال له والابتسامة تعلو وجهه :”أنظر إلى سيارات الجاغوار، والمرسيدس، والبورش التي تنتظر دورها للغسيل.“”إي عندي كثير نسوان بدون غسيل!!“

تظهر معالم السلطة في أوجه لا تحصى ولا تعد في محطة الوقود هذه. وهذه المحطة هي جزء صغير جداً ولكن غير سخيف من صناعة البترول في جميع أنحاء العالم. هذه الصناعة التي تغذي الاقتصاد العالمي بكل ما للكلمة من معنى، وتشعل الحروب وتدمر كوكبنا. في هذه المحطة بالتحديد، تتبلور مختلف الظواهر الاجتماعية والسياسية وتصبح ”حقيقة“ إذ أنها توثر على حياة الناس اليومية بشكلٍ بسيطٍ إنما فعال جداً. فأسعار الوقود تعكس وضع الحياة السياسية اللبنانية، ولوائح السيارات تدل على (محاولات) تقسيم إدارية والتشريعية ورقابة؛ وعلامة موبيل الزرقاء تربط الوضع في لبنان بالشبكة العالمية للشركات المتعددة الجنسيات، وتذكرنا أن القرارات التي تؤخذ في لندن أو نيو يورك تؤثر على حياة الناس في المنصورية، ربما أكثر من القرارات التي تؤخذ في لبنان نفسه.

من والواضح فإن محطة الوقود هذه لا تشكل محطة وقود وحسب (وهي ليست مجرد محطة وقود عادية).

مع كل ليتر بنزين أو بترول يجري في عروقها، تشكل محطة حاج قوى محلية وعالمية، متجذرة في الحاضر وكامنة في الماضي. وهي الميدان حيث تقوم السلطة بنسج خيوطها بصمتٍ وهدوء. وبين ”المسائل الشخصية“ غير المهمة وشمولية القوة الايدولوجية، تشكل محطة الوقود هذه المكان الأقوى الذ تتبلور فيه أبسط الأمور في الحياة اليومية إنما أكثرها أهمية وتأثيراً على حياتنا.

Translation by Sahar Ghoussoub

[/et_pb_text][/et_pb_column][/et_pb_row][/et_pb_section]

(Visited 169 times, 1 visits today)

Leave a Reply