عن بيروت المنفية داخلي

Society This article is part of the series الهجرة الذاتية

 

Illustrations by Aude Nasr

يبدو لي غريباً أن أكتب عن رحلة الذهاب وأنا أتهيأ لرحلة العودة، التي لم تكن مقررة عندما أردت البدء بكتابة هذه المادة، أو ربما يختلط هنا مصطلح الذهاب والعودة، هل أذهب إلى لبنان أم أعود إليه؟

وصلت إلى لبنان في رحلة نزوح مفاجئ وقسري في نهايات عام 2013، وككل التواريخ التي لا تنسى وصلت مع عائلتي إلى لبنان في صباح ال 17 من تشرين الثاني الساعة السابعة والنصف صباحاً، قد لا يهمكم هذا التاريخ ولكنه التاريخ الذي بدأ الحكاية، والتي أتشارك بها مع الكثيرين.

في هذا اليوم فقدت كل ما كان قبله

في هذا اليوم فقدت كل ما كان قبله بعد عدة أشهر تخرجت من الجامعة وانتقلت إلى لبنان بشكل نهائي، بعد قليل من الوقت لم يبق لي في سوريا سوى الجدات وبعض الأقارب، والأصدقاء الذين سافروا تباعاً، كانت الخسارات في سوريا عميقة جداً، اختفى معها كل الذكريات، الأصوات في سوق الحميدية في دمشق، برودة البلاط في الجامع الأموي، شجرة السرو أمام بيتنا، الفسحة السماوية التي كنت أطل منها إلى الكون، خرجت ومعي عشرة مفاتيح لأبواب تخلعت … ولم يعد بإمكاني العودة مرة أخرى.

هل سأرحل؟

في يوم ما في تموز تلقيت بريداً الكترونياً يفيد بقبولي في إحدى التدريبات في ألمانيا وبأن علي البدء بإجراءات التقديم لتأشيرة السفر بأسرع ما يمكن!

بقدر ما أسعدني الخبر بقدر ما كان ثقيلاً علي لعلمي بصعوبة الحصول على تأشيرة سفر لأوروبا، واتخاذ قرار سريع إذا ما كنت سأبقى كلاجئة في ألمانيا، أو أعود “كسائحة” للسنة السادسة على التوالي في لبنان، بعد أن فرضت السلطات اللبنانية على السوريين الوافدين إلى أراضيها منذ 2015 الحصول على تأشيرات سفر سياحية أو إقامة عمل بشروط يصعب تحقيقها لانخفاض دخل العمال السوريين وعمل معظمهم بشكل غير قانوني في لبنان، وتوقفت منذ ذلك الوقت عن تسجيل أي لاجئين جدد في لبنان.

كنت في ذلك الوقت أعمل مع منظمة طبية كمنسقة ميدانية، العمل الذي لم يكن يتعلق بأي من مهاراتي أو الأعمال التي قمت بها من قبل سوى الترجمة بين الأطباء المتطوعين القادمين من بلاد بعيدة وبين الأشخاص القاطنين في المخيمات التي نقدم لها الخدمات الطبية، بدأت عملي معهم بالصدفة بعد أن كسرت قدمي وخسرت عملي السابق، ليتحول هذا العمل إلى أفضل شيء حدث لي في ذلك العام.

خرجت ومعي عشرة مفاتيح لأبواب تخلعت … ولم يعد بإمكاني العودة مرة أخرى.

في الوقت الذي كنت أعمل فيه على تحضير الأوراق، كنت أعرف من تجربة سابقة أن السفارة لن تقبل طلب الحصول على تأشيرة سفر لعدم وجود مدة تزيد عن ستة أشهر في إقامتي في لبنان. وكفعل استباقي قررت تجديد إقامتي السنوية قبل انتهائها بعدة أشهر ورغم التكلفة المرتفعة نسبياً وبدئي بالإجراءات إلا أن هذا الخيار لم يكن متاحاً، إذ يمنع تجديد الإقامات قبل انتهائها بالفعل!

المحاولات الثلاث للتقدم بطلب التأشيرة باءت بالرفض، ولم تنجح إلا قبل عدة أيام من السفر.

صراعات

كانت أمي منذ وصولنا إلى لبنان عام 2013 ترفض أية فكرة تتعلق بسفري أو سفر أحد أخوتي لوحده، لم يكن لشخص مثلها يحب إمضاء معظم الوقت في عالمه الصغير سوانا، في هذه البلاد الغريبة. كانت تغضب، وتستغرب كيف نتخلى عن البقية بهذه السهولة لنغادر وحيدين. قد لا يبدو لبنان بلداً غريباً، لكن ليس لأمي، كنا هنا وحدنا نحاول أن نستكشف مساحات آمنة ونحن الآتون من بلاد كلها خوف، بعد أن تركنا منزلنا بشكل فجائي دون أي إمكانية للعودة.

انضممت إليها على الشرفة حيث كانت تمضي المساء في صيف تموز القاسي في منزلنا في بر إلياس في البقاع، بعد نهار طويل من العمل على استعصاءات أوراق التأشيرة. وكعادتي بدأت بالثرثرة معها عن نهاري الطويل كمقدمة أحاول الاقتراب من السؤال عن رأيها في حال قررت البقاء “هناك”، كنت أتخبط بين كل الاحتمالات والقرارات، ولكن أمي لم تكن كذلك، كانت تعرف أن عليّ الرحيل طويلاً هذه المرة. كانت السنوات الستة التي سبقتها فشلاً مستمراً في الوصول معاً إلى أي مكان أبعد من لبنان، لهذا كان علينا أن نبدأ رحلتنا فرادى، وكنتُ أول من يغادر.

كانت تعرف أن عليّ الرحيل طويلاً هذه المرة.

لكن هذا لا يعني أني لم أكن أتخبط. لم أكن أعرف ما الطريقة الأفضل للبقاء؟ العمل؟ الدراسة؟ اللجوء؟ كان التقديم على اللجوء فرصتي الوحيدة للبقاء كسورية في ألمانيا، ولكنه أيضاً كان مصدر تخوفات حقيقية لما سمعته عن تجارب الآخرين في ألمانيا، مثلاً .. ماذا لو بقيت لمدة سنتين بدون أوراق رسمية؟ ماذا لو اختاروا أن يرسلوني إلى قرية نائية في ريف ألماني مهجور؟ ماذا لو كنت وحيدة جداً فوق كل هذا؟

ملجئي السعيد أو My happy place

كان صيف عام 2019 أفضل صيف مر علي على الإطلاق، أو على الأقل هذا ما تخبرني إياه ذاكرتي التي أُتخمت بتفاصيل الحرب واللجوء. ربما يتهيّأ لكم أن أفضل صيف يعني الاستلقاء على الشاطئ أو الذهاب للسياحة في بلد أجنبي مع مجموعة من الأصدقاء، مع الكثير من الموسيقى والرقص. ربما يكون هذا هو الصيف المثالي، لكنه لم يكن هو صيف 2019 بالتأكيد!

أمضيت ذلك الصيف في عملي مع المنظمة الطبية كنا نغطي 14 مخيماً سورياً نائياً بالرعاية الصحية والأدوية، لم أعتبره عملاً في أية لحظة. يبتدئ نهارنا بالذهاب إلى المخيمات في المرج أو سعد نايل في البقاع، ولا نعرف متى ينتهي يوم العمل، ولكن غالباً أعود إلى المنزل في وقت متأخر، وقد أتخمت بالأكل والضحك طوال النهار مع كل من رافقنا من بدايته.

ما زلت حتى الآن أعود إلى ذلك الصيف عندما أفقد بوصلتي، وأتذكر لفحة الشمس اللاهبة ونحن نختنق في السيارة الطبية المتنقلة وغير المجهزة بشكل كافٍ، ثم أعيد الأغاني والنكات التي كنا نطلقها في طريق العودة، ونحن نمر بين حقول القمح المفتوحة، بعد أن ننتهي من المعالجات الطبية في المخيمات.

ما زلت حتى الآن أعود إلى ذلك الصيف عندما أفقد بوصلتي

في بداية السنة ضربت عاصفة قوية المنطقة ففاض نهر الليطاني وغرقت مخيمات بأكملها، بقيت الحال هكذا طيلة شهور الشتاء وبداية الربيع. كانت عملية التعافي بطيئة، والتي تؤثر بالتالي على نوعية الأمراض وكمّ العمل الذي كنا نقوم به.

كان كل يوم يحمل لنا مغامرة جديدة، نرمي بأنفسنا في الصباح في الفان الذي تم تحويله ليكون عيادة، وكأننا في فيلم هوليودي ننطلق بها بين الحقول إلى المخيمات النائية، يستقبلنا أهل المخيم بالقهوة، ريثما يبدأ المرضى بالتجمع.

وضع المخيمات في ذلك الصيف كان مأساوياً بكل المقاييس، وكنا نحارب لكي نستمر في العمل.

كان كل شيء حقيقياً الضحكات، الغناء، الألم، الربيع، الروائح المنتشرة والابتسامات، والأيدي المتسلخة، وجوه الأطفال، حرارة الصيف اللاهبة، الجروح، الحكايات، روث البقر، قلق الأمهات وعدم اكتراثهن، اللطف والجلافة، والدموع والسعادة كانت حقيقية جداً.

كيف يمكن لي أن أترك كل هذا؟ ولماذا قد أتركه؟ لماذا أذهب إلى بلاد باردة وأترك كل هذا الدفء؟

تأشيرة السفر المستحيلة

شعرت هذه المرة أني خبيرة في التعامل مع مرارة تجربة الحصول على تأشيرة سفر. كانت المرة الثانية عن طريق السفارة الألمانية، لكنها الثالثة للحصول على تأشيرة إلى أوروبا، والتي نجحت في اللحظة الأخيرة في المرة الثانية عندما سافرت إلى فرنسا.

كنت أتصل كل يوم تقريباً أو أرسل بريداً إلكترونياً للسفارة، لم يتبق سوى أقل من أسبوع، وأنا لا أعرف ما إذا كنت سأسافر أم لا، هل أودع الأصدقاء أم لا؟ هل أخبرهم أني سأسافر أم لا؟ هل أبدأ بتوضيب أشيائي وحياتي لرحيل طويل أم لا؟

هل أبدأ بتوضيب أشيائي وحياتي لرحيل طويل أم لا؟

وصلت إلى نهاية شهر آب موعد السفر بعد يومين، وأنا أجاهد للسيطرة على نفسي، وأنفجر كل يوم في نوبات بكاء طويلة.

كنا قد وصلنا إلى نهاية الأسبوع ولا أي خبر عن التأشيرة ذهبت إلى العمل كالعادة، وهناك قررت أن أجري محاولة يائسة أخيرة وطلبت من صديقتي الاتصال بهم، كان ردهم أنهم سيعاودون الاتصال بي!

“آلو .. نعم … أنا فاطمة الحجي”

“إذا أردت الحصول على تأشيرتك عليك استلامها من بيروت اليوم قبل الساعة الثانية”

“لكنها الآن الحادية عشرة وأنا لست في بيروت … حسناً حسناً .. سأصل سريعاًَ”

كنت أركض للحاق بتأشيرة السفر .. يا للهول! هذا يعني أنني سأغادر حقاً! وماذا الآن؟

اختيار المنفى

وصلت إلى ألمانيا بتأشيرة سفر صالحة لعشرة أيام وقرار كبير غير محسوم يسألني عنه كل أصدقائي المقربين. كنت أحاول معرفة ما هي الإجراءات الأفضل وما هي البدائل الممكنة؟ في أي مدينة يجب أن أقدم طلب اللجوء؟ ما هو الوقت الأفضل؟

لا يوجد أي جواب واضح، المزيد من التخبط، كل شخص لديه إجابة مختلفة، ولا شيء أكيد!
كانت هذه الأسئلة تحمل معها الكثير من التخبط، والقلق، كل ما كنت أريده في تلك اللحظة هو أن أعود إلى لبنان، أستيقظ صباحاً، وأرمي بنفسي في الفان، عيادتنا، ونبدأ رحلة النهار.

أحمل الكثير من الحب للمكان الذي غادرته، لبيروت ودمشق والبقاع

لكني كنت أعرف في قرارة نفسي أن تفاصيل الحياة المرهقة في لبنان ستجردني من روحي مع الوقت، وأنني لن أستطيع متابعة عملي ونشاطي بنفس الطاقة. لهذا انتظرت حتى حان الوقت المناسب، ورميت نفسي في رحلة جديدة، سأسمح لنفسي بأن أسميها المنفى.

آخر الواصلين إلى برلين

كنت محظوظة في الكثير من الأشياء التي حصلت لي في الفترة الأولى. أولها هو بقائي بمحض الصدفة في برلين، وثانيها وهو الأهم، هو وجود الكثير من الأصدقاء الذين كنت أعرفهم قبل انتقالي.

لم تكن المرة الأولى التي أزور فيها برلين، مررت عليها في رحلة سابقة، وصلتها في الليل وبدت لي مكاناً مخيفاً وشديد الاتساع، بأبنية ذات حواف حادة، لا تشبه أياً مما عرفته في مدننا الإسمنتية الفوضوية في لبنان وسوريا.

في زيارتي الثانية وصلت وأنا أحمل قلقي، وأحاول التعرف على المدينة، واستكشاف أماكنها محاولة استعادة شيء من المألوف والتعامل مع التغييرات الجديدة. كنت مهيأة لما ينتظرني، ولكن أحمل الكثير من الحب للمكان الذي غادرته، لبيروت ودمشق والبقاع، الحب الذي كان يتكثف على شكل ثرثرة أحياناً لما أعتبره جمال وعمق التجربة التي تركتها، أو على شكل نوبات من البكاء في شوارع برلين العريضة.

كانت هذه المرحلة فرصة لتبادل القصص مع السوريين الذين التقيتهم، كنت أسمع قصص الأصدقاء في بدايات لجوئهم، الظروف الصعبة للغاية التي عايشوها، الأماكن غير الصالحة للسكن، ساعات الانتظار التي قد تطول لأيام في شتاء برلين القاسي، الصراع مع اللغة، والحياة والماضي.

كان البحر هائجاً في قلبي عندما وصل الخبر عن انفجار المرفأ في بيروت

كانت هذه القصص تشعرني أنني آخر من وصل إلى برلين. كنت الزائرة الجديدة، متأخرة لخمسة أعوام عن السوريين الذين وصلوا إلى هنا في فترة اللجوء والذين وصل معظمهم عبر البحر.

كنت أتعلم التاريخ المشترك بين كل القادمين، أحاول معرفة من أنا هنا، وما هو المشترك بيننا. بعد خمس سنين في ألمانيا، كانت العلاقات بين الجميع قد وصلت إلى الاستقرار، بخلافاتها وقربها، وشلليتها ومشاريعها، مجتمع كامل مستقر في تشكيله وهويته إلى حد بعيد.

اصطدمت في برلين من جديد مع هويتي السورية، تصبح الحدود واضحة بين المجتمعات وانتماءاتها في بلاد المنفى. كنت قد أمضيت سنواتي الثلاث الأخيرة في لبنان وبحكم الصدفة في مجتمع متنوع، فيه أشخاص من بلاد وانتماءات مختلفة، فيه الكثير من اللبنانيين، لم تكن الهويات مهمة معظم الأحيان، لكن ليس في برلين!

تواريخ الوصول تختلف في برلين، حسب تاريخ الكارثة التي حلت في البلاد، وكل تاريخ يخلق مجموعة جديدة من المهاجرين، كلنا هنا ولكن كل لوحده. وأنا لا أعرف إلى أين أنتمي، ربما أنتمي إلى هذا كله! لكن بالتأكيد جزء مني ينتمي إلى بحر بيروت، كان البحر هائجاً في قلبي عندما وصل الخبر عن انفجار المرفأ في بيروت، هلعت من جديد أتصل بالجميع، عدت من جديد إلى سوريا بانتظار انتهاء الغارة للتأكد بأني لم أفقد أحداً فيها، لم يعد بإمكاني التفكير باحتمالات خسارة من أحب وأعرف. كانت بيروت تؤلمني بكل من فيها، وأنا أراقب البحر هناك في قلبي. لا تكف تلك البلاد عن تعذيبنا، ولا تتوقف فيها الخسارات.

قضيت في لبنان ست سنوات، أشعر أحياناً أنها كل ما أملك. كنت فقدت من أنا عندما انتقلت إليها، ثم أعدت اكتشاف نفسي من جديد. واكتشفت عالماً جديداً من الأصدقاء، مفاهيم أوسع للحب، ومساحة للنقاش والسياسة والمسرح.

أحمل في داخلي مكاناً واسعاً جداً يتسع لبحر بيروت،

أنهيت سفرتي الأولى إلى لبنان في بداية كانون الثاني من هذا العام على عجل، انتزعت نفسي منه انتزاعاً، كانت رحلة قصيرة لكنها بنت داخلي جسراً بينها وبين برلين. لم تخذلني برلين كان استقبالها لي بارداً.

لكنني أحمل في داخلي مكاناً واسعاً جداً يتسع لبحر بيروت، فيه كل اللحظات الحقيقية التي عشتها، والكثير من الدفء والود والضحكات.ما زلت أسمح لنفسي أن أسمي برلين كمنفى، المنفى الذي نحكي فيه الكثير من القصص الدافئة عن تلك البلاد البعيدة، البلاد التي تؤلمنا كل يوم لكننا لن نشفى منها.

 

 

Inner migration was produced as part of the Switch Perspective 2020-2021 project, supported by GIZ. All illustrations by Aude Nasr. Story translated by Sahar Ghoussoub.

(Visited 526 times, 1 visits today)