إلغاء الخطط

حياتي في الإغلاق العام

Society This article is part of the series الهجرة الذاتية
Illustrations by Aude Nasr

عندما كنت صغيرة، لم يكن بإمكاني أن أغفو بسهولة. غالبًا ما كنت أبقى مستيقظًة في الفراش، أدور وأتقلّب حتى ساعات الليل المتأخرة. أخطط تخطيطًا دقيقًا تفاصيل اليوم التالي. كنت أحاول أن أتذكّر النكتة المضحكة التي سمعتها من أهلي لكي أخبرها لصديقتي المفضّلة في الملعب أثناء الاستراحة. كنت أراجع فروضي المنزلية “في حال” جاءنا الأستاذ بامتحان مفاجئ، ثمّ أتحقق من أنّ أقلام الرصاص مبريّة وأنّ غطاء قلمي المفضّل مغلق بإحكام حتى لا يجفّ.

جلّ ما في الأمر أنّني أردت أن أكون مستعدّةً لأيّ شيء. كنت أقلق بشأن التفاصيل الصغيرة لليوم التالي.

وكلّما كبرت أصبحت أهتمّ بالتفاصيل أكثر فأكثر. أصبح لديّ عشرات المفكّرات ومئات الخطط. أحلام كبيرة لي ولمستقبلي. كنت أعرف ما أريد أن أفعله. اخترت أصدقائي بشكلٍ دقيقٍ وراقبت تقدّمي بشكل سنويّ بدقّة أكبر من جميع النواحي، سواء على الصعيد الأكاديمي أو الروحي أو المهني أو حتى لياقتي البدنية.

وكلّما كبرت أصبحت أهتمّ بالتفاصيل أكثر فأكثر.

ثمّ انهار كلّ شيء في الثاني عشر من آذار العام الماضي. حينها، اضطررت للتوقف عن حضور ورشة عمل طال انتظارها حول الصحافة الاقتصادية، وذلك بسبب ارتفاع أعداد المصابين بفيروس كوفيد-19 وفرض الإغلاق العام على الأراضي اللبنانية.

لم يكن لديّ الخيار سوى مغادرة بيروت التي تحوّلت إلى مدينة أشباح، بعد اختباء سكانها في منازلهم أو عودتهم إلى أمان قراهم بعيدًا عن المدينة وعن الفيروس. فعدت أنا أيضًا إلى قريتي، وأدركت حينها أنّ مخططاتي لن تأتي معي.

اضطررت لإجراء حديث مطوّل مع نفسي.

أصبحت مسيرتي المهنية وخططي المستقبلية معلّقة حتى إشعار آخر. وأصبحت صحتي مهددة وسط جائحة عالمية. ابتعدت عن شبكة الأمان – عن أصدقائي المقربين. كنت وحدي، ولأوّل مرّة على الإطلاق، كانت أيامي فارغة تمامًا: لا خطط، لا تحضير لأي شيء، ولا شيء يجب القيام به على أكمل وجه. حينها، اضطررت لإجراء حديث مطوّل مع نفسي. أذكر المرّة الأولى التي تعرّفت فيها على مصطلح “جائحة” – كان ذلك في الصفّ السادس. بدا الأمر لي في غاية الغرابة في ذلك الوقت. لكني أذكر معلّمة الإجتماع تطمئننا قائلة: “إنّ الجائحات ليست بالأمر الشائع. وليس مرجحًا أن نشهد جائحة في حياتنا”.

كنت أمضي فترة بعد الظهر بعد المدرسة جالسة القرفصاء في سريري أقرأ الروايات الخيالية والمقالات والقصائد أو أقرأ مجلات المشاهير. وفي باقي الوقت، كنت أحلم.

أدركت أنني أريد أن أصبح كاتبة منذ أن كنت في الصف الرابع. بدا لي الأمر معقولًا للغاية. للقيام بذلك، كنت مقتنعة بضرورة وضع خطّة. قال لنا معلّم اللغة العربية ذات مرّة أنّه يجب على المرء قراءة ألف قصيدة قبل أن يصبح شاعرًا عظيمًا.

لذلك بدأت بالقراءة. قرأت كتب التاريخ والروايات والقصائد ثمّ المزيد من القصائد. قمت بمراجعة موسوعة الأطفال في مدرستي مرات عديدة. قرأت مذكرات مؤلفي قصص الأطفال ودوّنت ملاحظات عن مسيرتهم حرصًا مني على اتباع خطواتهم.

قرأت كتب التاريخ والروايات والقصائد ثمّ المزيد من القصائد.

وهكذا، تخرّجت الأولى في صفّي في كلية الصحافة وبدأت أكتب لوسائل إعلام محلية وعالمية.

ولكنني لم أكن أذهب إلى أي مكان من دون مفكرّتي. كنت أقوم بتدوين أفكار القصص وأسماء الأشخاص الذين عليّ مقابلتهم بترتيب فائق. كما كنت أدوّن المكان والزمان بالتحديد لمقابلة الأصدقاء وتناول القهوة، وأوقات اجتماعات العمل وتواريخ أعياد الميلاد المهمّة وما إلى ذلك. كنت مقتنعة بالكامل أنّ تلك كانت الطريقة الوحيدة لإنجاز الأمور.

مع ذلك، حاولت الاسترخاء قليلًا في منزل أهلي في الجبل أثناء الحجر الصحي، لكن حتى مع انتشار الوباء في العالم بشكل سريع جدًا، سرعان ما وجدت نفسي غير قادرة على العيش في المجهول.

ثمّ أدركت أنه يجب عليّ أن أغيّر طريقة تفكيري هذه كي لا أفقد صوابي.

لذلك، قرّرت أن أستيقظ عندما يحلو لي، وأطفأت جميع المنبّهات في الصباح. بدأت كلّ يوم بمشاهدة الأخبار المحلية ثمّ العالمية، ولاحظت الأمر نفسه: الأنظمة الاقتصادية والصحية تعاني بشدّة في كلّ مكان.

ثمّ أدركت أنه يجب عليّ أن أغيّر طريقة تفكيري هذه كي لا أفقد صوابي.

المستشفيات الحديثة التي تقصدها النخبة في الدول المتقدّمة تفشل فشلًا ذريعًا. كان هذا المشهد في العالم غريبًا عليّ ولم أستطع فهمه، ولم أعرف كيف أهيئ نفسي لمواجهة الانهيار الذي يحدث أمام عينيّ.

في صباح كلّ يوم، كنت أعرف أنّ يومي سوف يكون طويلًا، لذلك قرّرت القيام بروتين أقسمت على الالتزام به: إلغاء جميع أنواع التخطيط لما بعد الجائحة، ومشاهدة الأفلام على نتفليكس في الوقت الراهن.

لن أفكّر في أي مشاريع أو ورش عمل أو مؤتمرات قادمة. لن أضغط على نفسي وأعصف ذهني لأفكار قصص محتملة، ولن أقلق بشأن العثور على الأشخاص المناسبين لإجراء المقابلات معهم. لن أقلق بشأن صقل سيرتي الذاتية وتلميعها مرارًا وتكرارًا. ولن أقوم بتحديث صفحتي على LinkedIn بشكلٍ ممنهجٍ.

وهذا بالضبط ما فعلته في الأسابيع الأولى، إلى أن بدأت أشعر برهاب الأماكن الضيقة.

لا يعني ذلك أنني لم أستطع البقاء في غرفة مغلقة. لكني كنت أعتقد أنّي سوف أبقى محبوسة داخل المنزل لأيام طويلة مقبلة وبدا لي المستقبل خنوعًا وكئيبًا.

ماذا لو علقنا في منازلنا لمدّة عامين بينما ينكب العلماء على تطوير لقاح؟ ماذا لو لم يتم التوصّل إلى لقاح أصلًا؟ أو ماذا لو تم ابتكار اللقاح ولم يحصل عليه لبنان لانعدام الكفاءة في حكومته؟

ماذا لو لم يتم التوصّل إلى لقاح أصلًا؟

عندما أُعيد التفكير في مخاوفي في تلك الفترة، أرى الآن أنني لم أكن أفكر بشكلٍ صحيحٍ. لكني شعرت بالعجز وأنا أراقب كيف كانت الأمور تجري.

مع مرور الأيام، وجدت نفسي مضطرة للبحث عن الأسباب التي دفعتني للشعور بهذه الطريقة.

أدركت فيما بعد أنّ السبب قد يكمن في حرصي الدائم على عدم تعريض نفسي للمجهول خوفًا من عدم القدرة على التعامل مع العالم وسرعة أحداثه.

قضيت خلال تلك الأشهر الثلاث في القرية، فعلت ما أريد، استيقظت حينما أريد، لم أهرع إلى أي مكان وقضيت النهار في ملابس النوم، فتجددت روحي واستعدت طاقتي.

لكن مع انقضاء فترة الحجر الأولى في لبنان في آخر أيار 2020، شعرت بالارتياح لأنّي استعدت التحكّم بحياتي مجددًا إلى حدّ ما.

بدأت أقدّر الأمور التي كنت أشتكي منها في بيروت: حركة السير المدمرة للأعصاب، الشجار الدائم بين أولاد الحيّ حول من فاز في مباراة كرة القدم، وجدول أعمالي الممتلئ تمامًا.

تغيّرت نظرتي تجاه الأشخاص الذين يعيشون كل يوم بيومه من حولي.

لم أعد أتذمّر وأشتكي بالقدر نفسه كلّما كان يومي حافلًا في العمل أو كلّما اضطررت للعمل لساعات إضافية.

تغيّرت نظرتي تجاه الأشخاص الذين يعيشون كل يوم بيومه من حولي. إنهم أشخاص يفضلون الحفاظ على راحة البال حتى في الأوقات العصيبة والمقلقة. بدأت أدرك القوّة التي يتمتّع بها هؤلاء.

في بعض الأحيان، يحدث النموّ في الفراغ. أمّا أنا، فقد استغرقني هذا الأمر وقتًا طويلًا والكثير من التأمّل كي أدركه.

أكتب هذه الكلمات بينما يشق لبنان طريقه خلال إغلاق عام جديد بسبب ارتفاع أعداد المصابين بالكورونا. أمّا أنا، فأشعر بهدوء أكبر حيال عدم قدرتي على السيطرة على مجريات الأمور هذه المرة، على الرغم من كلّ ما يحصل، وهذا أمر جيد بحدّ ذاته.

هل يمكنني القول أنني شخص مختلف الآن؟ لا أظن ذلك.

مع ذلك، هل يمكنني القول أنني شخص مختلف الآن؟ لا أظن ذلك. تعلّمت قبول ذاتي كما هي في حاضرها وماضيها. أدركت أيضًا أنّه لا بدّ لي أن أطلق العنان قليلًا وأن أسمح للحياة أن تأخذ مجراها خارج سيطرتي. لست مضطرة أن أدير الدفّة في كلّ مرّة… حسنا، ربما في بعض الأحيان فقط.

 

 

Inner migration was produced as part of the Switch Perspective 2020-2021 project, supported by GIZ. All illustrations by Aude Nasr. Story translated by Sahar Ghoussoub.

(Visited 115 times, 1 visits today)