مترو دمشق

Fiction series

ScenesfromaDamascenesubway2-CynthiaMerhej

i- 

قالت لنفسها “تباً! لقد تأخّرت” ثم هرعت بالركض في نعالها حاملة حذائها بيدها وشعرها يتطاير مفلتاً من عقدته. نزلت الى أسفل الدرج ووصلت الى حاجز التذاكر لتتذكر أنّ بطاقتها الاعتمادية، كالعادة، خالية من الرصيد. ألقت نظرة خاطفة على ساعتها لتجد أنّه ما لم يحدث شيئاً خارجاً عن المألوف، فمن المفترض أن يقلع القطار في 3… 2… وحلّ الهدير الصامت على مسمعها ثمّ بدأ يتلاشى بعيداً ببطء.

قبعت بأرضها أمام الحاجز بشعرها المبعثر وقميصها المنسدل وهي ما تزال تنتعل نعالها وتحمل حذائها بيدها، لتشعر بدموع تخدّر عينيها وبخدش يجرح حلقها: هي لم تتأخّر على وظيفتها – فلم تكن تعمل بعد حينها. في الواقع، لقد تأخّرت على مقابلة عمل كان أباها قد حرص على تأمينها لها عبر صديق صديقٍ لصديقه –  فكان لكلّ واحد منهم معروفاً يسديه للآخر. ذهبت مكتئبة لتجلس على أحد المقاعد تحت خريطة المترو. بدأت تداعب فكرة ارسال بريد الكتروني تعتذر فيه عن تأخرها غير أنّها لم تفعل ذلك – فهي لا تريد الوظيفة على أي حال. راحت تنظر الى أرجاء المحطة بعد هدوء الحركة الصباحية وبدأت تبتلع كل تفصيل فيها.

هي لم تبدي يوماً اهتماماً بمحطة المترو هذه، فهي إحدى المحطات القديمة في المدينة التي لا يهتم أحد بصيانتها. عندها، دخل صبي مع امرأة عجوز، جدّته ربما، فابتسمت له ثمّ سرعان ما لفت نظرها ملصق ممزّق الأطراف على الحائط. فقامت لتلقي نظرة أقرب عليه وتكتشف أنّه قصيدة، أو ربما جزء منها، لم تعرف ذلك حقاً. فهي لم تسمع يوماً بالشاعر الذي وقّع اسمه في أسفل القصيدة التي لا يبدو لها أنّ تكون قد قرأتها من قبل أيضاً. تتكلّم هذه القصيدة عن المدينة وتمجّد جمالها وتصف الحمام الذي يزيّن المسجد الأموي وأغصان الياسمين الملفوفة حول المباني ورائحتها التي تفوح في فصل الصيف. فالقصيدة تتمحور حول الأهمية التاريخية للمدينة، عن أمجاد صلاح الدين والحزن الأبدي لزينب بن علي. قرأَتْها مرّتين ثمّ أطلقت العنان لنصف ابتسامة. فلو قرأ أصدقاؤها هذه القصيدة لسخروا من اللغة المنمقة والمثالية التي اشتهر بها جيل أجدادها. وكانت في العادة لتوافق على ذلك غير أنّ شيئاً ما جذبها في هذه القصيدة. راقت لها الرومنسية فيها، وأحبت فكرة أنّ المدينة يحكمها تاريخ عريق وأنّ كلّ حجر يحمل ثقله ملاحماً، فأخرجت هاتفها لتلتقط صورة للقصيدة غير أنّه بدأ بالرنين قبل أن تتمكن من ذلك. أجابت على الاتصال وأخذت تتكلم بحماسة مع المتصل وهي تخرج من المحطة متناسية القصيدة والأفكار التي راودتها.

ii- 

أمسك ولد صغير بيد جدّته بمزيج من التوتر والحماس. فالرحلة في المترو تشكل متعة نادرة  له. والداه يفضلان التنقل بالسيارة على الرغم من زحمة السير وصعوبة ايجاد المواقف في المدينة، وشقيقاته لا تهتمنّ به كما يجب. أصغى الولد جيداً لجدّته وهي تشرح له عن محطّات المترو، فأمامهما رحلة طويلة اليوم الى محطة القطار القديمة التي كانت تنطلق منها الرحلات قديماً الى الحجّ والى القدس، والتي لم تعد تصلح حالياً سوى لتبديل خطوط المترو. رفع الولد رأسه ليرى آلة التذاكر تبتلع القطع النقدية من يدي جدّته المجعّدتين. أخذت الجدّة البطاقة التي أصدرتها الآلة وأعطتها لحفيدها منبّهةً إياه ممازحة : “احتفظ بها جيّداً، فإن أضعتها ستقع في مأزق كبير”.

عبر الولد حاجز التذاكر وهو خائف من أن تبتلع الآلة بطاقته ثمّ تشبّث بيد جدته مجدداً. وبينما ذهب كلاهما ليجلسان على مقعد قبالة السكّة لانتظار القطار المقبل، أخذت الجدّة تروي لولدها نسخة مبسطة عن الحملات الصليبية على المنطقة. سمع أحد المارة قصّة الجدّة وانضم إليهما ليصحح تفصيلاً صغيراً. صعد الثلاثة على متن القطار وجلس الولد في حضن جدّته التي استكملت سرد حكايات عن ماضٍ ولّى الزمان على أيامه وعن أساطير دينية مختلقة. استمع الولد متعجّباً للقصص التي بدت له أحداثها وشخصياتها خارجة عن المألوف والواقع.

ScenesfromaDamascenesubway1-CynthiaMerhej

iii-

صعدت مجموعة من المراهقات على متن القطار وهنّ يهمسن ويضحكن ويثرثرن حول يومهنّ في المدرسة. رمقتهن امراة مسنّة انقطعت عن قراءتها بنظرة انزعاج فهدئن لبضع دقائق ثمّ انفجرن ضحكاً مرّة أخرى. إنّه بعد الظهر من يوم الخميس، أي بداية عطلة نهاية الأسبوع! فكيف لهنّ ألّا يكنّ متحمسات؟ عند توقّف القطار عند المحطة ما قبل تلك التي يقصدنها، صعدت مجموعة من الفتيان وجلسوا مقابلهنّ وبدأوا بمغازلتهنّ بالكلام. هم يعرفون بعضهم البعض من قبل عبر أصدقاء لأصدقاء المجموعتين. بدت على وجوه بعض الفتيات ملامح الاحمرار خجلاً من التكلم مع الفتيان، فوضعن شنطهنّ في أحضانهنّ وهنّ ينظرن الى الأرضيّة المتسخة. اتفق الجميع على أن يلتقوا في وقت لاحق في أحد منازل البلدة القديمة الذي تمّ تحويله الى مقهى. ارتسمت على وجه احدى الفتيات ملامح الاشمئزاز وسألت الأخريات بسخرية إنّ كنّ جادات. فلا أحد يذهب الى المقاهي الآن، فذلك غير معاصر! هزّت الأخريات أكتافهن تعبيراً عن لا مبالاتهنّ – فإن كانت لا تريد المجيء لا أحد يجبرها على ذلك. بدأ الصبيان بمضايقتها فارتفع صوت المجموعتين الى حدّ أجبر المرأة المسنة على إسكاتهم، ولكن بعد فوات الأوان. فكانوا قد وصلوا الى محطتهم. نزل الجميع من القطار وذهب كلّ منهم في طريقه موعوداً…

iv- 

لقد تأخر الوقت، ولم تعد المحطة والقطارات تعج بالناس. بدأ ينقر بقدمه على الأرض، لكن ليس على وقع موسيقاه بل بشكل عشوائي. إنّه يفكّر بما حدث الاسبوع الفائت في المدرسة ويأمل أن يكون والداه سعيدين برؤيته. فقد قطع مسافة طويلة للوصول إل المنزل ومفاجأة أمّه بمناسبة عيد ميلادها. استغرق القطار ساعة للوصول الى الجولان حيث توقّف لساعة ليجلب لأمّه تفاحها المفضّل، ومن ثمّ ساعة أخرى للوصول الى المترو. تمنى لو كان يملك سيّارة لكنّه يعرف جيّداً أنّه ليس بحاجة لواحدة، فالجامعة تأخذ كلّ وقته والبنزين مكلف بكلّ الأحوال.

إنّه يدرس الأدب ويعيش بعيداً عن المنزل، ويعتقد والداه أنّ في ذلك مضيعة للوقت والمال. هذه السنة، يكمل عامه الثالث في الجامعة ويسعى جاهداً للحصول على شهادة أعلى. وعلى الرغم من أنّه كرر ذلك مراراً وتكراراً لوالديه، فما زالا يعتقدان أنّه سيصبح طبيباً، وهو لايفهم ذلك. فلا أباه طبيب ولا جدّه كان طبيباً ولا حتى أي من عمومه في مجال الطبّ، غير أنّ والديه مقتنعان أنّه يجب أن يصبح طبيباً. أطلق زفيراً ببطء ثمّ تحقق من الوقت، فقد هرع الى محطة القطار بعد الصفّ مباشرة ولم يتسنى له وقتاً للراحة منذ ذلك الحين. هو لم يعد الى المنزل منذ بضعة أشهر، وفي المرّة الأخيرة كان قد استقل الطائرة للعودة والسيارة قبل ذلك، فنسي كم يمكن لرحلة القطار أن تكون متعبة. في كلّ سنة تنتشر إشاعات عن بدء عملية بناء قطار سريع يصل يافا بدمشق إلاً أنّه يتمّ تأجيل الأعمال في كلّ مرّة. وكان والداه قد سألاه لماذا اختار يافا لدراسة الأدب في حين كان يمكنه دراسة الموضوع عينه في دمشق، غير أنّ ذلك أمر آخر لا يفهمانه فيه.

أخيراً، وصل الى محطّته فوقف وتفقّد أغراضه : حقيبة ملابسه وحقيبة المدرسة وكيس التفاح. في طريقه للخروج من محطة المترو، رأى ملصقاً كان قد وضعه منذ ثلاث سنوات صامداً بوجه الزمن، فارتسمت ابسامة كبيرة على وجهه. فهو قد علّق الملصقات في محطات عدّة في نواحٍ مختلفة في المدينة – الملصقات التي وضعها تحمل قصائده. بعض منها عن دمشق وعن مدن أخرى والبعض الآخر عن الحبّ. وكان قد فعل الشيء نفسه في فلسطين، غير أنّه اعتقد أنّه قد تمّ إزالتها أو  تم وضع ملصقات أخرى فوقها أو أنّها قد تحللت بفعل الطقس. لقد فرح جدّاُ بصمود هذا الملصق في هذه المحطة، فعلى ما يبدو، لا تزال هذه المدينة القديمة تحتفظ بمكان له فيها.

 

(Visited 355 times, 1 visits today)

Leave a Reply