المسلسلات التركية تجتاح العالم العربي

من أفقر الأحياء المليئة بالكلاب المتسكعة في الشوارع وصولاً إلى أغنى شواطئ مضيق البوسفور، تجتمع العائلات التركية في مساء كل يوم عند الساعة الثامنة والنصف جالسة أما شاشة التلفزيون لمشاهدة مسلسلاتها المفضلة. وفي الآونة الأخيرة، انتشرت ظاهرة المسلسلات التركية إلى أبعد بكثير من المناطق الداخلية لتركيا، فقد طالت البلدان من أوروبا الشرقية وصولاً إلى آسيا الوسطى. غير أن نجاحها الأكبر كان في العالم العربي.

في تركيا، تحظى المسلسلات التلفزيونية بشعبية كبيرة لا تصدق وتجتذب المشاهدين من مختلف الانتماءات الاجتماعية. فستة وتسعون بالمئة (96%) من العائلات التركية تملك جهاز تلفزيون، ويمضي الأتراك معدل 5 ساعات في اليوم في مشاهدة التلفزيون. وبحسب نسبة المشاهدين في شهر كانون الثاني/يناير الماضي: إن 7 مليون شخصٍ يشاهدون المسلسلات الخمس الأكثر شعبية، حيث تصل نسبة المشاهدة لمسلسل وتمضي الأيام لوحده 13.6 مليون مشاهد. وبعبارة أخرى، أكثر من 20% من الشعب التركي يشاهد هذا المسلسل بالتحديد الذي يعرض كل يوم ثلاثاء في الساعة الثامنة مساءً. هذا بغض النظر عن المنافسة الشرسة بين عشرات القنوات ومئات المسلسلات التلفزيونية الأخرى. فمعظم القنوات التلفزيونية التركية تعرض مسلسلين أو ثلاث كل ليلة في خلال الأسبوع. وبفضل نسبة المشاهدة العالية، والعائدات الكبيرة من الإعلانات، شكلت المسلسلات التلفزيونية في عام 2008 صناعة بلغت قيمتها مليار ليرة تركية (أي 560 مليون دولار أميركي). أما في عام 2010 فانخفضت قيمتها إلى 700 مليون ليرة تركية (390 مليون دولار أميركي)، ذلك بسبب الأزمة المالية العالمية.

من الدراما إلى الكوميديا، مروراً بالرومانسية ووصولاً إلى التشويق والإثارة، فالمسلسلات التركية تضم جميع أنواع التمثيل وأحياناً تجمع هذه العوامل معاً في مسلسل واحد. ففي مسلسل القرن العظيم، تجوبون عصر العثمانيين، عصر أحجار الماس الضخمة والصراعات من أجل السلطة. أما في مسلسل “الأوراق المتساقطة”، فتشاهدون آلام أبٍ يرى أولاده يتخبطون في مصاعب الحياة. ويتناول المسلسل “ما هو ذنب فاطمة غول” قصة درامية مروعة تدور أحداثها حول امرأة يتم اغتصابها على يد أربعة رجال أمام أعينكم. وفي مساء كل يوم وعند الساعة نفسها، يتسنى للمشاهدين تتبع أحداث شخصياتهم المحبوبة- تلك الشخصيات التي باتت كلماتها على لسان الجميع يستخدمونها في تعابيرهم اليومية، والتي أصبحت أسماؤها تجسيداً للأمثلة النفسية.

كان لموجة المسلسلات هذه التي ازدهرت في خلال عشر سنوات تأثيراً كبيراً على المجتمع التركي؛ فهي لم تعد مجرد هواية مشاهدة التلفزيون بل اتخذت بعداً آخر. فأبطال تلك المسلسلات باتوا مثالاً يحتذى به وبدأ العديد من الشبان يحلمون بأن يصبحوا نجوماً على شاشة التلفزيون. إن تأثير هذه المسلسلات كبير جداً من حيث الثقافة والاستهلاك. وبفضل المسلسل المستوحى من رواية العشق الممنوع، أصبح كاتب هذه القصة الراحل وغير المعروف هاليد زيا إوسكليجيل Halid Ziya Uşaklıgil مشهورا أكثر من أي وقتٍ مضى، علماً بأن كتابه نُشر للمرة الأولى في عام 1900. فالشابات لبسن بفخرٍ قلادة “بهتر” (أو سمر للترجمة العربية)، بطلة العشق الممنوع. وباتت أغنية المسلسل الأغنية الأكثر شعبية التي تسمعونها في كل مكان.

بعد العنوان الاستفزازي لمقال نُشر في الصحيفة التركية الناطقة باللغة الانجليزية Today’s Zaman في شباط/فبراير الفائت: تركيا تستولي على عرش البرازيل،  يظهر مقال آخر في هذه الصحيفة يقول: “لقد تم تصدير أكثر من 60  مسلسلاً إلى 39 بلداً، بما في ذلك 14 مسلسلاً مختلفاً لدول الشرق الأوسط حيث يعتبر الناس هناك من أكبر مستهلكين تلك المسلسلات.

في التسعينات، كانت المسلسلات المكسيكية هي الطاغية في الشرق الأوسط. فبعد ظهر كل يوم، كان الناس يمضون وقتهم بمشاهدة ماريا مرسيدس تقع في غرام خورخي لويس ديل أولمو، أو مشاكل ومصاعب حياة ماريسول. ولكن في السنوات القليلة التي مضت، استبدلت المسلسلات المكسيكية بالمسلسلات التركية، التي جذبت جماهير الشرق الأوسط بشكل أكبر.

ففي الواقع، كانت المسلسلات المكسيكية تعتبر بعيدة عن الواقع، فهي ميلودرامية بشكلٍ مبالغ فيه وأحداثها معقدة، وعادة ما كانت السيناريوهات تعيد نفسها وباتت أحداثها متوقعة. أراد المشاهدون شيئاً جديداً. وبالإضافة إلى ذلك، كانت دبلجة تلك المسلسلات باللغة العربية الفصحى، مما جعلها أقل مصداقية، إذ أن هذه اللغة ليست لغة الحياة اليومية. باختصار، كانت هذه المسلسلات المكسيكية مصطنعة للغاية بالنسبة للمشاهدين. أما اليوم، فاللغة العربية العامية هي الأكثر شيوعاً على شاشة التلفزيون، مما أدى إلى ظهور موجة جديدة من المسلسلات المحلية باللهجة العربية العامية مثل باب إدريس في لبنان وآدم في مصر.

فضلاً عن هذا كله، فإن المسلسلات التركية تأخذ طابعاً ثقافياً، الأمر الذي لم تعالجه المسلسلات اللاتينية. وكم وإن الأبطال الأتراك يحملون أسماء شائعة في العالم العربي مثل نور ومهند بدلاً من روزاريتا وماريمار. بالإضافة إلى ذلك أخذت المواضيع السياسية حيزاً في المسلسلات التركية، فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي على سبيل المثال، تم ذكره في مسلسل وادي الذئاب ومسلسل صرخة حجر. كما وأن الديانة الإسلامية كان لها دوراً أيضاً. وفي هذا الإطار تقول الشابة الجزائرية ثريا البالغة من العمر 26 عاماً أن” المسلسلات التركية تتحدث عن الله وعن القرآن، وبعض النساء فيها يرتدين الحجاب، وتسود فيها التقاليد الإسلامية”. وتضيف الشابة قائلة: ” إن العديد من عوامل هذه المسلسلات تجذب المشاهدين منها: جمال وجاذبية الممثلين والأماكن، والثياب العصرية التي يرتدونها، بالإضافة إلى واقع دبلجتها باللهجة السورية التي تعتبر في الجزائر لهجة مرموقة وأكثر اللهجات جمالاً “

Istanbul
انت في اسطنبول يمكنك تشتري المجوهرات الرخيصة التي يرتداها النجوم الاتراك

وعلى الرغم من انتقاد بعض الشخصيات الدينية لها باعتبارها مسلسلات غير إسلامية، ذلك بسبب شخصياتها وقصصها “غير الأخلاقية”، إلا أن نجاح المسلسلات التركية كان سريعاً. وبدأ كل شيء مع نور (Gümüş) في عام 2008، هذا المسلسل الذي جذب أعداداً هائلة من المشاهدين. فالحلقة الأخيرة منه جذبت 85 مليون شخصٍ.

وكان مسلسل “نور” يُعرض على القناة السعودية MBC. غير أنه كان عليه مراقبة منذ البداية. وتقول ثريا في هذا الإطار: “فجأة، كان الممثلون يتحدثون عن مواضيع غير منطقية ويتخذون مواقف جديدة ولا نعرف السبب، وذلكد لأنه كان يتم حذف كافة المواضيع المتعلقة بالجنس.”

وباتت المسلسلات التلفزيونية سلاح تركيا الناعم تستخدمه في المنطقة. فبفضل تلك المسلسلات نشرت تركيا ثقافتها في العالم العربي وازداد نفوذها. وتقول ثريا، “بدأ الجزائريون يسافرون إلى تركيا بفضل المسلسلات. فالجميع كان يحلمون بتمضية شهر عسلهم هناك، والتقاط الصور أمام فيلا نور.” وحتى ذلك المنزل التي تحدثت عنه ثريا تحول اليوم إلى متحفٍ يجذب مئات السياح العرب. ففي عام 2008 وحده، زار 70،000  سعودي ذلك المكان.

وبالإضافة إلى كونها تخطت المسلسلات المكسيكية، طغت أيضاً المسلسلات التركية على بعض المسلسلات الأميركية المعروفة. وكنتيجة لذلك، تحول الممثلون الأتراك إلى قدوات شعبية، غزت صورهم الصحافة العربية. فموجة المسلسلات التركية طالت العديد من الناس الذين لم يجدوا أي صعوبة في متابعتها. وتقول تيا، امرأة لبنانية تبلغ من العمر 55 عاماً: “اتخذت بأحداث المسلسلات على الفور. شاهدت أولاً نور عندما تم عرضه للمرة الأولى، ومن بعد ذلك كنت أتابع كل مسلسل جديد يتم عرضه على شاشة التلفزيون.”

ترجمة الى العربية: صحر غصوب

(Visited 1,208 times, 1 visits today)

Leave a Reply