لجوء إلى أمّي

Society This article is part of the series الهجرة الذاتية

 

Illustrations by Aude Nasr

“قدركم يا أحبابي ان تكونوا غرباء في أرض الوطن و عدو لدود في المهجر.”

بهذه الكلمات الثقيلة لاقيت أحد أخوتي عند مدخل المطار. لاح طيفه لي من بعيد يلوح بيده، عيناه كانتا تتكلم وتخبر الألم لكن لسانه أبى الا أن يكون متفائلاُ جباراً.

لم يجل في خاطري عند اللقاء سوى فكرة واحدة: كيف اقف عاجزاً أمام تحقيق أحلام أخوتي الاثنين ورعايتهم وطمأنتهم إلى مستقبل أفضل. لم أكترث حينها الى ما أعانيه شخصياً او يعانيه سواهم من عوز و فقر حال وقلة تدبير، جلَّ ما أريده اليوم هو سعادتهم فقط.

صعد الحبيب سيارة الأجرة التي كانت تنتظر في الخارج، رمقني السائق مستفهماً إن كان عليه الانتظار ام المسير. أحنيت رأسي ايجاباً دون أي تعبير.

على هذا الطريق، بدأ شريط الزمن يعود بي الى الوراء سنتين خلت. حينها، كان أخوتي في سنتهم الجامعية الأولى، كانوا فرحين، صبورين، حالمين و طموحين بإكمال تخصصهم أولاً قبيل أي خطط مستقبلية. عانينا سوياً من انفصال وتشرذم عائلي عدة سنوات خلت، لكننا كافحنا، ثلاثة أخوة مع أمهم الحنون، رغم الصعاب ورغم نظرات المجتمع المحتقرة. كافحنا الى ان وصلنا الى ضفة الاستقلالية الاجتماعية والثقافية.

في حينها، لم تجد الأم باباً للرخاء والراحة والخروج من هذا المستنقع الوسخ سوى عبر السفر وبدء حياة جديدة. فكانت البداية معها بموافقتها على الزواج من رجل شبّه لها انه يحمل حسن الخلق وطيب القلب والروح. وعدها بالسفر وأبنائها حيث لا همّ يذكر ولا ماضٍ يستحضر. لكنه كذب.

عند نهاية العام الأول، شاءت ظروفهم المادية والعائلية أن تطغى على أحلام أيقظتها مرارة الحياة. بدأ يتلاشى الأمل بمتابعة التعليم وبناء حياة مستقرة وآمنة لهم في لبنان.

أن تقف في قارعة الطريق حائراً لا تدري كيف تخطو خطوتك الثانية ولعلها ناقصة، او تغلق على نفسك باباً لعله يكون الأوحد في هذه المرحلة، أن تجد نفسك وحيداً في عالم يسكنه المليارات، ان تخشى الموت لأن رأسمال حياتك لطالما كان ان تجعل من كل عثير وثير ومن كل مرارة عُذُوبَة، أفكارٌ كانت تجول خاطرهم كل لحظة ولحظة.

في المقلب الآخر، قلب ينبض بالحب والاشتياق يروعه لوعة فراق وبعد مسافة وتأنيب ضمير. هو قلب أمٍ سافرت رياح خريفٍ بها إلى عاصمة من عواصم الاتحاد الأوروبي سعياً خلف الأمن والأمان، سعياً نحو تعبيد الطريق لعلً الأيام القادمة تحمل لها أبناءها إليها بعد حين. حين تزوجت، أملت أن يكون خيارها بداية حياة جديدة، لكنه كذب.

كذب حين أسمعها الوعود وأيقظ فيها الأحلام ثم انقلب عليها. كذب حينما أوهمها أنها بملاقاته في منتصف الطريق تكون قد عبّدته لأبنائها أيضاً. وحين أصبحت في دياره، أبلغها أنه لن يعمل على إحضار أبنائها الى حضنها.

حين انقطعت السبل بهم في ما يسمى بالوطن، أصبح الرجاء هو السفر واللقاء. وهكذا كان، خلال أيام معدودة عاد القلب يطرق من جديد: لقد حصل الأشقاء سوية على تأشيرة دخول الى احدى دول الاتحاد الأوروبي فيما الأخ الأكبر فضّل التروي وانتظار فرصة أفضل. سعادة لا توصف ولا تكتب او تنثر عبر أسطر، هي سعادة مرادفة لعودة الأمل ببداية جديدة، سعادة مرادفة لبناء مستقبل مشرق، و الاهم من ذلك هو سعادة اللقاء والعناق بين الأم والأبناء بعد طول فراق.

أبتسم وانا أذكر تلك اللحظات مودعاً أخوتي على باب المطار، تلاقت أنظارنا من بعيد ففهموا قولي: قولوا لها السلام وقبلوا وجنيتها. ابقوا الى جانبها آمنين سالمين فرحين واني لملاقيكم يوماً بكل تأكيد.

ساعات السفر كانت قاسية عليهم لكن بطء الوقت وتحديده حصرًا موعداً للقاء الأم بأحبابها كان الأقسى، وحصل اللقاء وتلاقت الأرواح واحتفلت حدقة الأعين مسرورة برؤية الأخرى. ساعات الفرح والمتعة وشوق اللقاء كان يقطعه بين الحين والاخرى سؤال يراود أذهان الأخوة: ماذا بعد الآن ؟

مرت أيام قليلة، ثم أستقر الرأي بعد المشورة. لا بد من تقديم أنفسهم لاجئين هاربين من بطش دولة و حكامٍ ومن سذاجة ولامبالاة شعب غير ذي وقار.

يخيًل للسامع ههنا ان لا مرتبة فوق مرتبة اللاجىء في اوروبا، ولا عزة فوق عزة من تحتضنه الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان وشرعة حقوق الإنسان. من قاسى مرارة الحياة في عالمنا ومن تلوّع تحت اضطهاد مجتمعاتنا، يخيّل له أن حياة اللجوء هي خشبة الخلاص وهي جسر العبور الى العالم الآخر. الا ان هذه الشرع والقوانين والدساتير كلها لم تلحظ شيئاً واحداً: قدسية الحب والمحبة التي تجمع وتربط شمل العائلة.

فيما كان طلب الأخوة بالحماية واللجوء يدرس لدى السلطات المعنية، كانت الأم ملؤها ثقة أن الرحمة والانسانية الموجودة لعلها في روح القوانين تشفع لأبناءها بالبقاء وبناء حياة جديدة.

عاماً كاملاً قضاه الصبية بين مركز وآخر في الدولة نفسها، بين قسم وآخر، يدلون بإفاداتهم وشكواهم إلى السلطات المعنية. خلال هذا العام، وعلى نقيض سواهم وهم كثر، فقد استفاد الأخوة من الوقت الضائع لهم من خلال تعلم اللغة باحترافية، والمشاركة في النشاطات والاحتفالات الوطنية والإجتماعية، وتحصيل بعض الشهادات وإتمام الدورات المجانية ومنها في مجال المسرح والتمثيل والرسم والموسيقى والفن، في مجالات تبدع فيها الروح ويختال فيها العقل.

انتهى العام وكانت هدية الميلاد هو رفض نهائي لطلب اللجوء المقدم، وحتمية العودة إلى الدولة الأوروبية التي أتوا عبرها. الصاعقة كما كانت على الأخوة، كانت على الأم ايضاً. ألم يحن وقت جمع الشمل بعد؟ ألم يحن الوقت بعد لتعش هذه العائلة سويةً تمضي ما تبقى من الأيام بابتسامة؟

لم يكن بالسهل أن يخيل للأخوة ان يعودوا الى الشقاء والعَنَاءٍ طوعاً، فقرروا الانتقال سراً من مكانهم قبيل ترحيلهم إلى إحدى الدول الأوروبية المجاورة لعلهم يجدوا ضالتهم هناك، ويكون الأمان والاستقرار خليلهم في غربتهم.

وكعادتهم، فيما الوقت يمضي، كان لا بد من الاستفادة قدر الإمكان من الطاقات والفرص المتاحة لهم. فبدأوا بتعلم لغة أخرى وشبك علاقات اجتماعية مع محيطهم آملين أن يكون هذا مجتمعهم ومستقرهم.

هي أشهر قليلة، قبل أن يأتي الجواب لهم. رفض طلبكم باللجوء أيضا، رفض طلبكم بأن تبقوا في بلد يدّعي حماية الإنسان والأم والطفل والعائلة، بلد يغدف على الأقليات بدروس حول الانسانية والرأفة والمحبة.

لم يكن الخبر بالسهيل عليهم، فزاد شقاءهم شقاء وفرقتهم فرقة. فقرر أحد الأخوة ان يعود طوعياً الى بلد يحمل هويته ولا يحمله. أما الآخر، فرفض الاستسلام والانقياد الى حكم جائر، وهو لا يزال حتى تاريخ اليوم زائراً خفيفاً يجول في أطراف المدينة.

هي سنتين خارج حدود الوطن مضت، قضاها أخوة أتقنوا حتى يومهم ذاك أربع لغات أجنبية الى جانب لغتهم الأم، اندمجوا في مجتمعاتهم وكان جلّ ما يطلبونه الأمن اولاً ثم فرصة عادلة ليكملوا تحصيل علمهم وأدبهم، و يشقوا طريقهم بأنفسهم بعيداً عن أي ارتهان او خنوع. جلّ ما طلبوه كان السماح لهم بعناق أخير مع والدتهم، تزودهم بدفء المحبة وقوة المثابرة والمتابعة رغم كل الصعاب.

نظرت الى أخي جالساً الى جانبي متأملاً ما افتقدَهُ خلال العامين الماضيين، وفي خاطري يجول مصير الآخر هائماً وحيداً في مهجره. ابتسمت وطأطأت له رأسي مؤكداً: كل شيء سيكون على ما يرام .. لا تقلق يا صغيري كل شيء سيكون على ما يرام.

 

 

Inner migration was produced as part of the Switch Perspective 2020-2021 project, supported by GIZ. All illustrations by Aude Nasr. Story translated by Sahar Ghoussoub.

(Visited 205 times, 1 visits today)