في ظلال شجرة الكينا

Society This article is part of the series الهجرة الذاتية

 

Illustrations by Aude Nasr

إن أحلامنا وذاكرتنا كأجسادنا تهاجر إلى الماضي حيث ذكرياتنا الجميلة والمؤلمة، وإلى المستقبل تهرب بنا من واقعنا وتعيش في غير المكان الذي نحن فيه تاركة أجسادنا منهكة من قسوة أيامها، فطيور السنونو تترك أوطانها باحثة عن الدفء في أرض ليست أرضها. كذلك الإنسان يترك أرضه ووطنه بحثاً عن وطن يحميه أو وطن يحقق له ذاته ويحفظ له كرامته، فكل مكان نغادره نترك خلفنا الكثير من الذكريات والأماكن والأحباء، لنعيش في مكان آخر مع واقع جديد ومختلف وهذا حال أبو خليل ابن قرى الجولان.

يروي أبو خليل ذو الشعر الشائب والبشرة الحنطية حكايا رحلته وذكرياته التي عاشها مع بداية تهجيره القسري في بداية الحرب في الجولان المحتل سنة 1967.

البداية في الجولان

« كنت أعيش في قرية في الجولان السوري مع والدي وإخوتي وجدي وجدتي في منزل ريفيّ صغير حيث كانت عندنا مضافة كبيرة لاستقبال الضيوف وغرفة للعائلة ومطبخ صغير بجانبه غرفة تسمى دار المونة كانت أمي تخزّن فيها الأطعمة للشتاء مثل كرات اللبنة مع زيت الزيتون والتين المجفّف ومربى المشمش، كان جدي يجلس تحت شجرة الكينا الكبيرة أمام المنزل ويجتمع معه بعض كبار السن في أغلب الأيام صباحاً ويتحدثون ويضحكون. لم أكن أتذكر من حديثهم شيئاً إلا أنني أشعر بسعادتهم وهم يحتسون القهوة العربية المرّة التي كان جدي يحضّرها لهم ويجلس الرجال على حجارة سوداء كبيرة.

إن أحلامنا وذاكرتنا كأجسادنا تهاجر إلى الماضي حيث ذكرياتنا الجميلة والمؤلمة

أما في فناء المنزل تجلس جدتي غالباً ما تكون تساعد والدتي في تحضير وجبة الطعام وهي تقوم بتنقية حبات العدس أو البرغل من الشوائب. كانت تقول لنا جدتي أن الجلوس في الشمس يقويّ من أبداننا ويُطيل أعمارنا. أمي تعمل في المنزل طوال اليوم وتعتني بإخوتي الصغار.

كانت تستيقظ منذ الصباح الباكر تودّع أبي وهو ذاهب إلى عمله وتحضّر له وجبة الطعام اسمها الزوادة (الزوادة بلهجة أهل الجولان المقصود فيها الطعام الذي يحمله الرجال عندما يذهبون إلى العمل أو في رحلاتهم الطويلة حيث يُجهز الطعام ويُلف بالقماش) بشكل يومي ليحملها معه إلى عمله في الخياطة منذ الصباح الباكر ويعود مساءً نستقبله جميعاً عند باب المنزل وهو مبتسم يملأه النشاط والحيوية ويُخرج من جيبه حبات القضامة (الحلوة) ويوزعها بيني أنا وإخوتي.

كنا نضع طعام العشاء بعد مغيب الشمس ونجلس جميعاً نسمع إلى أحاديث جدي وجدتي، وبعدها بقليل نذهب إلى النوم في انتظار إشراقة يوم آخر.

رحلة العذاب

في يوم مشمس جميل كنا على موعد مع الفرح الذي لم يكتمل. إنه يوم عرس عمي خالد الأخ الأصغر لأبي، قد قمنا بدعوة أهل القرية وكما جرت العادة لدينا تحضُر النساء والرجال كباراً وصغاراً من الأقارب والجيران وأهل القرية. يقوم الرجال بشكل جماعى بتحضير ساحة المنزل وتزينها وقد نصبوا الكراسي الخشبية في ظل شجرة الكينا الكبيرة، وتقوم النساء كبيرات السن من لديهن خبرة في الطهي وتحضير الطعام للحضور.

كانت تقول لنا جدتي أن الجلوس في الشمس يقويّ من أبداننا ويُطيل أعمارنا

طعام العرس لدينا في الجولان عبارة عن المنسف الذي يتكون من البرغل المغطّى باللحم إلى جانب اللبن، حيث يوضع الطعام في الصينية ويجلس الحضور بشكل مجموعات من ٤ إلى ٥ رجال أو نساء حول كل صينية. في فترة ما بعد الظهيرة، بدأ الناس بالتجمّع في الساحة، واجتمع الرجال للبدء في الدبكة الشعبية التي يحتفل بها أهالي الجولان على أصوات المزمار وقرع الطبل وشكلوا حلقة دائرية وهم متشابكي الأيدي وكأنهم قرص الشمس.

إلا أن فرحتنا لم تكتمل بعد وصول الأخبار من القرى المجاورة بضرورة إخلاء القرية سريعاً فلم يعد يفصلنا عن الموت إلا ساعات قليلة. بدأ الناس بمغادرة حفلة العرس وهم يصرخون ويجمعون أطفالهم، في لحظات تحول الفرح إلى حزن وتحول التجمّع إلى فرقة ترك الناس طعامهم. تفرقت حلقة الدبكة وبدأ الكل يركض باتجاه بيته ليحمل معه ما يستطيع قبل الخروج من المنزل.

لم يعد يفصلنا عن الموت إلا ساعات قليلة

تروي أمي يومها أنها لم تستطيع أن تخرج ببعض القطع الذهبية لديها والتي كانت تخفيها في سقف المنزل، كان أبي يقول لها بالحرف ليس لدينا الوقت لإخراج الذهب فقط احملي الراديو (المذياع)، فقد كان جهاز الراديو بالنسبة لأبي وجدي أهم من أي شيء آخر لعلّ في المذياع كان هناك أمل سماع خبر العودة يوماً ما.

تقول أمي يومها كنت ممسكة بالراديو بين ذراعي وكأنه طفل من أطفالي أخاف فقدانه، وكنا أنا وأبيك نتساعد في حمله وحمل إخوتك الصغار.

لم تكتمل سعادتنا في منزلنا الصغير عندما بدأت الحرب الاسرائيلية تركنا منزلنا مرغمين. أتذكر يومها القلق والخوف في عيون الجميع، جدتي التي تستند إلى الحائط وأبي الذي يحمل إخوتي ويساعد جدي وجدتي على المشي. تركنا الطعام في يوم العرس ولم نكمل أكلنا. كانت أصوات صراخ الأطفال وعويل النساء في الطرقات وبدأت تسير قافلة من البشر وكأنه يوم القيامة.

« ليس لدينا الوقت لإخراج الذهب فقط احملي الراديو »

البعض كان يملك الأغنام حاول أن يأخذ ما يستطيع من المواشي كان البعض أحضر الحمير التي كنا نحمل عليها كبار السن الذين لا يستطيعون المشي ويتبادلون الركوب عليها. بعد طول الطريق تفرّق الكثير من الناس عن بعضهم كي لا يلفتون الانظار إليهم. ذهبنا مجموعات صغيرة، كل في اتجاه، وفي لحظات من الخوف والقلق كنا نختبئ تحت أشجار الشوك الكثيفة في لحظات صمت الكل مستلق على الأرض ويحبس أنفاسه.

إلى الأردن مُهجَر

عند وصولنا إلى الأردن كان هناك استقبال العائلات التي هربت من الجولان. وصلنا حينها في منتصف الليل وكان هناك الكثير من العوائل وأصوات بكاء الأطفال والأمهات تواسيهم لتهدئتهم من الجوع والخوف، بدأ الشباب والفتيات بتوزيع الطعام لنا، كان يوم مخيف وذهول عظيم خيّم على الجميع، أتذكّر حينها نمت منهكاً ومتعباً بدون غطاء وفراش ولم أفق من نومي إلا على حرارة أشعة الشمس التي أصابت وجهي من نافذة الشباك الصغيرة.

في اليوم الثالث من تواجدنا في الأردن اجتمع الرجال وهم يتحدثون في إحدى الساحات وقد نهض الجميع وبدؤوا باحتضان أبي وجدي وتوديعهم وكان الجميع يودع بعضه البعض كان الكل يأخذ قراره في الوجهة القادمة٬ البقاء في الأردن أو الذهاب إلى سوريا.

نمت منهكاً ومتعباً بدون غطاء وفراش ولم أفق من نومي إلا على حرارة أشعة الشمس التي أصابت وجهي من نافذة الشباك الصغيرة

قرر والدي حينها الذهاب إلى دمشق لأن دمشق هي العاصمة وقد كان يعتقد أنها هي من تحتضن أبناء الجولان المهجرين ولديه الكثير من الأمل في أن العاصمة تحقق لهم الأمان والاستقرار وأن تكون إمكانية العودة إلى أرضهم أسهل في المستقبل.

إلى سوريا راجعاً

وبعدها توجّهنا إلى محافظة درعا السورية هناك عائلات هربت إلى الأردن بسبب قرب الحدود الأردنية من الجولان وأسكنونا أهالي درعا في منازلهم لقد كانت مرحلة انتقالية لم تتجاوز أسابيع وقرّرنا بعدها استكمال طريقنا إلى محافظة دمشق، في محافظة درعا كان هناك عادات وتقاليد متشابهة مع أهالي الجولان وثقافة مشتركة وحتى اللهجة قريبة كثيراً بين أبناء الجولان ودرعا.

إلى دمشق نازحاً

عندما وصولنا إلى دمشق توزّعنا في بنايات من الباطون قيد التجهيز اضطررنا على العيش بها على أمل أن تكون الاقامة فيها فترة قصيرة وكانت الوعود أن يرجع أهالي الجولان إلى قراهم قريباً ومضت الأيام ولم نعد إلى يومنا هذا توزع أهالي الجولان بين مناطق الحجر الأسود وسبينة وببيلا على أطراف مدينة دمشق، غالبية الأحياء هي أحياء فقيرة ومناطق عشوائيات ومع مرّ السنين أصبحوا أبناء الجولان أصحاب مهن ودخل أبنائهم وبناتهم الجامعات وبنوا البيوت و توزعوا في باقي المناطق من محافظة دمشق وأصبحوا جزءاً من النسيج الاجتماعي للمدينة.

شجرة الكينا تحيا من جديد

بعد مرور السنة الأولى من السكن الجماعي وفقدان الناس الأمل بالعودة المبكرة إلى أرضنا بدأنا نفكر بالاستقرار وانتقلت أسرتي يومها إلى منزل عربي صغير في منطقة الحجر الأسود في أحد الأحياء الشعبية وبدأنا في تجهيزه. والمنزل العربي عبارة عن ثلاث غرف ومساحة صغيرة تتوسطه محاطة بسور من الباطون، كانت ساحة المنزل مزروعة ببعض النباتات الجميلة.

طلب جدي من وأبي أن يزرع له شجرة كينا في ساحة المنزل لكي يستعيد ذكرياته معها

في أحد الأيام جلس جدّي في ساحة المنزل وهو يستند على عكازه ويتذكر جلوسه تحت شجرة الكينا في قريتنا في الجولان السوري، وطلب جدي من وأبي أن يزرع له شجرة كينا في ساحة المنزل لكي يستعيد ذكرياته معها. بعد زراعة الشجرة كان هناك فرح كبير وأمل لكل أفراد أسرتي، كان جدي يجلس في كل صباح وهو ينظر إلى شجرة الكينا الصغيرة وكأنه يقول في داخله « نتظرك تكبرين أيتها الشجرة لأجلس في ظلالك من جديد».

لكن اليوم جدي وحيد بدون أصدقائه، ومات وحيداً بدونهم أيضاً في مدينة دمشق، مات بعيداً عن أرضه وقبل أن تكبر شجرة الكينا ويجلس في ظلها قبل أن يتحقق حلمه في العودة إلى أرضنا ومنزلنا وإلى شجرة الكينا التي زرعها أول مرة في منزله الذي بناه بيديه.

كلمة نازح أكثر ما يؤلمني

كان يتكرر على مسامعنا كلمة “نازح” أو “النوازح” وهي الصفة التي يقصدنا فيها الآخرون من نفس أبناء البلد، كانت تسمى مناطقنا “بحارات النازحين” أو فلان نازح فلانة نازحة هذا الشيء جعلنا نشعر بالتمييز بين أبناء البلد الواحد كنا نسمعها في المدارس وفي العمل وفي حياتنا اليومية هذه الكلمات، كنت أفكر كثيراً قبل الزواج من الارتباط بفتاة تختلف عني خوفاً من الرفض الاجتماعي، مع مرور الأيام أصبحت العلاقات أفضل إلا أنها لا تخلو من التمييز من قبل المجتمع.

كنا نسمع كلمة “نازح” في المدارس وفي العمل وفي حياتنا اليومية

أكثر ما يذكرني بدمشق وخاصة الحجر الأسود ذلك الاكتظاظ السكاني والبيوت العشوائية كان لأهالي الجولان النصيب الأكبر في هذا المكان وكان يعيش إلى جوارنا اللاجئين الفلسطينيين، كانت تشدني كثيراً الألفة بين سكان الحي وتقاسم العيش لعل المعاناة واحدة بيننا وبين الشعب الفلسطيني.

كان هناك شارع يسمى شارع 30 الرابط بين مخيم اليرموك وهو مخيم فلسطيني والحجر الأسود يتوسطها قهوة شعبية تعج فيها الحياة عند المساء تسمع أصوات حجر الطاولة ودخان الشيشة يملئ المكان وعبق رائحة الشاي والقهوة وأحاديث الرجال الطويلة والشيقة عن طموحاتهم وأحلامهم تصدح في كل مكان، كانت تلك القهوة بكل بساطتها متنفساً للكثيرين وخاصة كبار السن.

إلى لبنان لاجئاً

قبل نهاية 2014، غادرنا دمشق متوجهين إلى لبنان وخاصةً بعد تدهور الأوضاع في سوريا. تاركين خلفنا منزلنا في الحجر الأسود وشجرة الكينا الثانية وقبر جدي الذي مات ودفن في دمشق. حيث قررنا المكوث في منطقة بيروت في إحدى المخيمات الفلسطينية واكتسبنا صفة جديدة وهي كلمة “لاجئ”. حملت معي من دمشق قفص عصافير الكناري تذكرت أبي عندما خرج من الجولان حاملاً المذياع معه وأنا اليوم أحمل قفص عصافير الكناري!

أبي خرج من الجولان حاملاً المذياع معه وأنا اليوم أحمل قفص عصافير الكناري!

دائماً هناك أشياء نرغب في الاحتفاظ بها مهما كانت الظروف، هذه أقدارنا ألا نعيش في سلام وألا ننعم في دفء منازلنا إلا أنه الشيء الوحيد الذي اختلف عند قدومي إلى لبنان هدوء الأصوات في أذنيّ فلم أعد أسمع أصوات الطيران والقذائف وأصبح أطفالي قادرين على النوم بشكل أفضل. في كل يوم أجلس وأنا أنظر إلى سقف البيت الذي استأجرته في إحدى الأحياء الفقيرة وأشاهد التصدع والرطوبة التي تعلو السقف وأفكر كثيراً كيف أننا دائماً نفقد الكثير في أوطاننا لم يعد هناك قهوة أذهب لها في كل مساء والتقي الأصدقاء والجيران.

واليوم بعد أكثر من ست سنوات من العيش في لبنان كلاجئين قدمنا منذ عامين إلى برنامج اعادة التوطين لدى مفوضية اللاجئين للسفر إلى إحدى الدول الأوروبية إلا أن انتشار فيروس كورونا وإغلاق المطارات حال دون سفرنا في الفترة الراهنة ونحن الآن في انتظار مصيرنا الجديد للعيش في حياة كريمة وآمنة بعد تعب سنوات الترحال على أمل أن يأتي اليوم الذي نعود فيه إلى أرض أجدادنا إلى الجولان وإلى ظلال شجرة الكينا. »

 

 

Inner migration was produced as part of the Switch Perspective 2020-2021 project, supported by GIZ. All illustrations by Aude Nasr. Story translated by Sahar Ghoussoub.

(Visited 411 times, 1 visits today)